بقلم: محمد عبدالمجيد
نائب رئيس تحرير جريدة الجمهورية
تمثل الألعاب حاجة ضرورية لحياة الأطفال كما الماء والهواء، فبها يفرغ الطفل طاقاته، وعبرها تترسخ كثير من القناعات في وجدانه، ومن خلالها تتشكل مبكراً بعض نظراته لمحيطه ودوائر معارفه؛ وكم من الصداقات كان مبتدأها ونجاحها ألعاب الطفولة المبهجة، وألعاب الأطفال تتطور جيلاً بعد جيل؛ فمنها ما ينقرض تدريجياً، ومنها ما يعاد طرحه بحسب معطيات العصر، ومنها المستجد المواكب للتطورات التكنولوجية، ومع كل ذلك تبقى الألعاب البدنية شاهدة على طفولة جميع الأجيال.
لكننا الآن في عصر إلكتروني متقدم صنع نوعاً من التنافس الشرس للألعاب البدنية، وحتى للألعاب التكنولوجية الهادئة والهادفة، يتمثل ذلك التنافس في الألعاب الإلكترونية المتطورة والمستخدمة عبر أجهزة الحاسوب المحمولة والهواتف الذكية، مستثمرة في ذلك الإنترنت، وشبكات التواصل الاجتماعي، والتطبيقات الذكية.
شراسة التنافس تعود لأمور عدة منها هذا التطور السريع لتكنولوجيا الحواسيب وشبكات الاتصال، وكذلك التنافس الاستثماري الشره بين شركات صناعة المحمول المتعددة، وأيضاً بين شركات صناعة الألعاب الذكية، وفي أروقة المتاجر الإلكترونية، ببساطة شديدة إنه سوق استثماري جنوني، أرباحه تجعل معظم منسوبيه يقفزون فوق جميع القيم التربوية أو الأخلاقية وحتى العقدية. وفي أروقة هذا السوق المدمر قد يضيع الأبناء، ويفقدون بوصلتهم في الحياة، إذا تركوا بدون رقابة أو توجيه أو توظيف إيجابي للألعاب الهادفة.
الإشكال الرئيسي في تلك القضية هو أن نظرة كثير من الآباء للعب الأطفال هي نفس نظرتهم للعبهم وهم صغار، في ظل تصوراتهم حول ألعابهم في الصغر؛ حتى ولو كان بعض الآباء من جيل الألعاب التكنولوجية الأولية المشهورة مثل الأتاري وألعاب الكمبيوتر والفيديو والبلايستيشن، فهذه برامج ألعاب كرة وهذا سباق للسيارات وتلك لعبة اصطياد أسماك وغيرها من الألعاب المسلية. ومن ثم فالأب أو الأم ينظران إلى لهو الطفل على أنه لهو طبيعي، أقصى أضراره المكوث الطويل أمام الألعاب وما يجره معه من متاعب صحية أو تعثرات دراسية أو انعزال مجتمعي، وغيرها من المشكلات التي قد يرى الآباء أن علاجها البسيط في تقليل فترة المكوث أمام تلك الأجهزة.
لكن! في ضوء الأجهزة المحمولة البعيدة عن مراقبة الآباء، والمرافقة للأبناء طوال اليوم، وفي ظل شبكات الإنترنت المفتوحة على كافة الثقافات والخيارات، تختل المعادلة التربوية الأولى، ويدخل للبيت مرب جديد يشارك الآباء في تشكيل شخصية الأبناء، تشكيلاً قد يجعل من الابن بؤرة خطورة على نفسه وعلى أسرته ومن ثم على محيطه المجتمعي.
إنه ببساطة الجيل الجديد من الألعاب الإلكترونية، والمعروفة بألعاب الواقع الافتراضي؛ والتي تحاول قدر الإمكان أن تجعل الطفل يعيش الواقع وهو يمارس لعبته، فهي تنقله بخياله من مجرد اللعب واللهو العابر إلى تنفيذ قواعد اللعبة على نفسه ومحيطه، فتطلب اللعبة من الطفل أن يقوم ببعض الأشياء غير المألوفة، مثل إرسال معلومات عن أسرته وبيته فضلاً عن موقعه الجغرافي وذلك عبر تقنية “جي بي إس”، وخدمات “جوجل” في الخرائط والتعقب، وفي ضوء هذه المعلومات يتم الدفع بشخصيات كرتونية افتراضية، يتعقبهم المتسابقون ويحاولون اصطيادهم على شاشات هواتفهم المحمولة، غير مراعية في ذلك لخصوصية الأسر ولا حتى أمانهم، ومن ثم خصوصية المجتمعات وأمانها. ومن أشهر الألعاب في هذا الإطار لعبة “بوكيمون جو” والتي نالت حظاً كبيراً من التسويق والترويج الإعلامي “المدفوع والموجه”.
وقد تتطرق الألعاب إلى طلب صور ومعلومات واقعية من حياة أسرة الطفل بحيث يتم استثمارها في لعبته، فتكون شخصيات اللعبة الكرتونية الافتراضية ومعلوماتها متوافقة مع الواقع المحيط بالطفل، فتجده يقتل أمه، ويسرق أباه، ويخطف أخته، وكله لعب افتراضي.
والخطورة في هذه النوعية من الألعاب أنها قد تطلب من الطفل طلبات عملية خارج نطاق الشاشة، بحيث ينفذها الطفل على نفسه ومحيطه، وكلما نفذ خطوة ارتقى إلى المرحلة التي تليها؛ ومنها طلبات كارثية مثل إصابة نفسه أو أحد أفراد أسرته، أو إشعال الحريق بالمنزل، أو فتح الغاز والأسرة نائمة، وذلك حتى يتمكن من مقابلة بطل اللعبة الخارق، وقد يصل الأمر إلى دفع الطفل إلى الانتحار، وهو ما حدث مع أكثر من ثلاثمائة حالة انتحار حول العالم من خلال لعبة تعرف باسم “الحوت الأزرق” ما دفع بعض الدول إلى حظر تلك اللعبة.
وهناك أيضاً نوع من ألعاب الواقع الافتراضي التي تندرج تحت تصنيف الألعاب الانحلالية والتي تحلق بالطفل والمراهق في أجواء الواقع الافتراضي الانحلالي بكل ملوثاته وقاذوراته، فيكون التسابق واللهث وراء تحصيل النقاط المدفوعة الأجر، من أجل لذة يعيشها المتسابق في الواقع الافتراضي.
ولا يخلوا الأمر من معتقدات فاسدة تبث من خلال ألعاب الواقع الافتراضي فتخلخل عقيدة الطفل، وتغرس فيها ما يكون بمثابة حائط صد تجاه العقيدة الصحيحة التي يحاول الآباء والمعلمون غرسها في نفوس الأبناء.
السياسة المباشرة لم تكن هي الأخرى بعيدة عن ألعاب الواقع الافتراضي، فنجد لعبة الأخبار التي تشكل ذهن المتسابق إعلامياً وسياسياً عبر غرس الخبر في وجدانه وهو يلعب ويلهو، فتكون اللعبة هي مصدره الإخباري الرئيسي في معرفة أحوال البلاد، وذلك وفق رؤية المتحكم في اللعبة، حتى ولو كان ذلك على حساب الحقيقة المجردة.
وفي ذات الإطار نجد أيضاً ألعاب الحرب الافتراضية والتي بدأها الأمريكيون فيما يعرف بالمحاكاة العسكرية، فنجد ألعاباً تشوه صورة اللاجئين، وألعاباً أخرى تشوه صورة المسلمين تحت ذريعة ما يسمى الحرب على الإرهاب، فتجعل الطفل والمراهق شريكاً في تلك المعركة يقتل ويرصد ويقدم معلومات، بل ويقدم رأيه في الخطط الحربية والاستخباراتية.
ولا يخلوا الأمر بالطبع من بعض الألعاب الافتراضية الهادفة؛ فهناك مصطلح في عالم الألعاب يعرف بـ “الألعاب الجدية” وهي ألعاب تسعى إلى إكساب الطفل والمراهق بل وكافة أطياف المجتمع المعلومات الهادفة عبر ألعاب الواقع الافتراضي؛ فنجد بعض الألعاب تتناول إجراء العمليات الجراحية وشرح الأجهزة الداخلية لجسم الإنسان، وأخرى تهتم بتنمية الذكاء والتنافس على المسائل الرياضية، وثالثة تهتم بمعالجة مشكلة الأمية، وغيرها. وقد تنبهت الجامعات الغربية وبخاصة الألمانية لهذا الميدان فعمدت إلى مشروعات بحثية تسعى إلى إخضاع الألعاب الإلكترونية للبحث والتجريب بغية إنتاج ألعاب إلكترونية معرفية يمكن من خلالها تبسيط العلوم وتقديمها للأطفال بطريقة جذابة عبر منهجية الواقع الافتراضي.
والآن… كيف تتعامل الأسرة المسلمة والمجتمع المسلم مع ألعاب الواقع الافتراضي؟.
لقد لمسنا من خلال الطرح السابق بعض سلبيات وإيجابيات ألعاب الواقع الافتراضي؛ حيث لمسنا بعضاً من المخاطر العقدية، والانحلالية، والإجرامية، والتعارف الفاسد بين الطفل المسلم وبعض الشخصيات الغريبة عن مجتمعاتنا وثقافتنا وهويتنا، ولا يخفى علينا دور تلك المخاطر في صناعة الشخصية الانطوائية، والعنيفة والمعتادة على العنف والظلم، والمنحرفة أخلاقياً وعقدياً أحياناً.
كما لاحظنا كيف تقترب تلك الألعاب من دوائر التجسس والتوجيه الاستخباراتي والسياسي. هذا إضافة إلى إدمان الطفل لتلك الألعاب وما يصاحب ذلك من استنزاف لوقته وبدنه وذهنه ومال أسرته.
وفي ذات الوقت لمسنا كيف أن التوظيف الجيد لتلك الألعاب الافتراضية قد يكون له بعض التأثيرات الإيجابية على المستوى الشخصي والمجتمعي.
وعليه فإننا سنحاول رسم بعض المسارات للتعامل مع إشكاليات الألعاب الافتراضية بما يحقق التوازن التربوي المنشود داخل المجتمعات المسلمة؛ تلك المسارات المتمثلة في:
- تنبه الأسر لخطورة ترك الأجهزة المتطورة المحمولة في يد الأطفال بدون رقابة؛ فابتداءً تدرس الأسرة مدى احتياج الطفل للأجهزة المتطورة، وعليه تحدد هل تمكنه من هذا الجهاز أم لا؟، وما السن المسموح فيها بحمل مثل هذا الجهاز؟، ثم تنظر في الاتصال بالإنترنت وتحدد متى يسمح للطفل أن يتعامل مباشرة مع الإنترنت، وما هي احتياجاته من الإنترنت، لتأتي بعد ذلك مسألة الثابت والمتحرك في الإنترنت، فمتى يكون الجهاز ثابتاً في مكان محدد داخل البيت؟، ومتى يسمح أن يكون استخدام الإنترنت في أي مكان وأي زمان؟. ثم تكون الرقابة والمتابعة الدقيقة لما يشاهده الطفل، وما يقوم باللعب به عبر جهازه المحمول.
- مساعدة الأبناء في اختيار الألعاب الإلكترونية المناسبة لأعمارهم، وعدم تركهم للاستكشاف الشخصي عبر أجهزتهم المحمولة، أو عبر زملائهم في الدراسة، مع تحديد مساحة زمنية في اليوم أو الأسبوع يلعب فيها الأطفال عبر الأجهزة الإلكترونية، ولا مانع من مشاركة الآباء لأبنائهم بعض الألعاب، ففي ذلك اقتراب من الأبناء، وفرصة للمراقبة الهادئة والتوجيه الرشيد.
- محاولة تفريغ طاقات الأبناء وشوقهم للعب عبر الألعاب البدنية، وذلك بإشراكهم في النوادي، وترك مساحات للعب البدني مع الزملاء مع ضمان سلامة الصحبة، وعدم التأثير على التحصيل الدراسي، والبناء المعرفي.
- يقع على الدول دور مهم في محاصرة الألعاب الإلكترونية الهدامة، فما المانع من إنشاء إدارة تربوية مستقلة خاصة بمدافعة سلبيات التكنولوجيا الحديثة؛ فتقوم بفحص مثل هذه الألعاب وغيرها من المخاطر التي تهدد أطفالنا؛ لترفع توصياتها للحكومة لاتخاذ الإجراءات المناسبة تجاه تلك المخاطر.
- على الكليات التقنية والكليات التربوية والدولة والأثرياء يقع عبء استحداث المشروعات البحثية المتعلقة بتطوير الألعاب الإلكترونية، وتطويعها بحيث تكون هادفة وجذابة في نفس الوقت، فاللعبة فن ومحتوى؛ فن إلكتروني تطويره يحتاج لعقل نابه، وما أكثر العقول النابهة في جامعاتنا، ومحتوى هادف، يحتاج لمفكر مخلص، وما أكثر العقول المفكرة في مجتمعاتنا؛ وليت الحكومات بميزانياتها، والأثرياء بأموالهم يلتفتون إلى هذا الحقل البحثي المهم.
- AHMAH1712@YAHOO.COM